حينما يصبح “السطح” هو كل شيء

في زمن السوشيال ميديا والاستهلاك البصري، تحوّلت الحياة الاجتماعية من فضاء للمعنى والتجارب الأصيلة إلى مسرح كبير تُدار فيه العلاقات بسطحية، وتُقاس القيم بالمظاهر.

هذا التحول لا يُعدّ مجرد اختلاف في الأسلوب، بل يحمل آثارًا عميقة على الفرد والمجتمع، من القلق الاجتماعي، وتفكك الروابط الإنسانية، إلى تآكل الثقة والرضا الذاتي.

ومن خلال مظاهر الظاهرة يتبادر لي سؤالين الأول:

كيف أصبحت الحياة واجهة عرض؟

في كثير من المجتمعات العربية، أصبح الاهتمام بالشكل الخارجي من اللباس الفاخر، والمناسبات المبالغ فيها، والصور المتقنة على (إنستغرام) يتفوّق على الجوهر الحقيقي للعلاقات، والنية، والعمق الفكري.

• حفلات زواج تكلف مئات الآلاف دون وعي اقتصادي.
• بوفيهات خيرية تُنشر صورها أكثر من توزيعها الحقيقي.
• صداقات تُبنى على المصلحة وتنهار عند أول اختلاف.

حقيقة: إن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي مرتبط بانخفاض مستوى الرضا الذاتي وزيادة المقارنة الاجتماعية بين المستخدمين.

والسؤال الثاني هو: ماهي الدوافع النفسية والثقافية لهيمنة المظهر؟

1. الخوف من حكم الآخرين : كثير من الناس يتصرفون لإرضاء نظرة المجتمع، لا لإرضاء ذواتهم.

2. البحث عن القبول والانتماء : في ظل غياب الروابط الحقيقية، يلجأ البعض لبناء هوية مزيفة كي يشعروا بأنهم مرئيون.

3. ضعف التربية على القيم الجوهرية : التركيز على القيم الشكلية في التنشئة (كالأناقة أو السمعة فقط) على حساب الصدق، والأمانة، والمبادرة.

ولعلنا نذكر بعض الآثار السلبية التي تتسلل إلى عمق المجتمع منها:

• ضعف العلاقات الاجتماعية الحقيقية: تتحول الصداقات والعلاقات العائلية إلى واجهات شكلية.
• ضغوط نفسية متزايدة: محاولة اللحاق بـالمظهر المثالي تسبب قلقًا وإرهاقًا.
• تشويه مفهوم النجاح: يُقاس النجاح بالسيارة والبيت والماركات، لا بالجهد، أو الأثر المجتمعي.
• عزوف عن العمل الحقيقي: يُفضل بعض الشباب صورة العمل على العمل ذاته، فيضيع الإنجاز الحقيقي خلف التصوير والبروز.

معاً نحو مجتمع يُقدّر الجوهر : لا يمكن بناء مجتمع ناضج دون إعادة الاعتبار للقيم الجوهرية.

ويمكن البدء بخطوات عملية :

• الأسرة: تربية الأبناء على القناعة، والتواضع، وفهم أن القيمة الذاتية لا تُشترى.
• المدرسة: تعزيز مهارات التفكير النقدي، والتعبير الذاتي، بدلًا من التركيز على الشكل والدرجات فقط.
• المؤسسات الإعلامية: إنتاج محتوى يُروّج للقصص الواقعية، والتجارب المؤثرة، لا فقط الصور اللامعة.
• وسائل التواصل الاجتماعي: استخدام المنصات لتبادل المعرفة والإلهام، لا للمقارنة الاستهلاكية.

حقيقة : أن إعادة بناء الانتماء الاجتماعي القائم على القيم الحقيقية هو خطوة ضرورية لسلامة المجتمعات الحديثة.

وفي نهاية هذه الأسطر أود أن أختم بأنه: عندما نُعلي من شأن المظاهر على حساب الجوهر، نخسر المعنى… نخسر أنفسنا.

إننا بحاجة إلى ثورة صامتة في الوعي، تُعيد تقييم النجاح، وتُصلح بوصلتنا الاجتماعية نحو الإنسان، لا صورته.

السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كل يوم: هل نحن نعيش… أم نُمثّل أننا نعيش؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى